كما قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجيء نوح عليه السلام وأمته ، فيقول الله عز وجل : هل بلغت ؟ فيقول ، أي رب . فيقول لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : لا ، ما جاءنا من نبي ، فيقول لنوح : من يشهد لك ؟ ! فيقول : محمد وأمته فنشهد أنه قال بلغ " وهو قوله تعالى : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " .
والوسط العدل . فهذه الأمة تشهد على شهادة نبيها الصادق والمصدوق ، بأن الله قد بعث نوحاً بالحق ، وأنزل عليه الحق وأمره به ، وأنه بلغه إلى أمته على أمل الوجوه وأتمها ، ولم يدع شيئاً مما ينفعهم في دينهم إلا وقد أمرهم به ، ولا شيئاً مما قد يضرهم إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه .
وهكذا شأن جميع الرسل ، حتى إنه حذر قومه المسيح الدجال ، وإن كان لا يتوقع خروجه في زمانهم ، حذراً عليهم وشفقة ورحمة بهم .
كما قال البخاري : حدثنا عبدان ، حدثنا عبد الله ، عن يونس ، عن الزهري ، قال سالم : قال ابن عمر : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم ذكر الدجال فقال : " إني لأنذركموه ، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه . لقد أنذره نوح قومه ، ولكني أقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه : تعلمون أنه أعور ، وأنه الله ليس بأعور " .
وهذا الحديث في الصحيحين أيضاً من حديث شيبان بن عبد الرحمن عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أحدثكم عن الدجال حديثاً ما حدث نبي قومه ؟ إنه أعور وإنه يجيء معه بمثال الجنة والنار والتي يقول عليها الجنة هي النار ، وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه " لفظ البخاري .
وقد قال بعض علماء السلف : لما استجاب الله له ، أمره أن يغرس شجراً ليعمل منه السفينة ، فغرسه وانتظره مائة سنة ، ثم نجره في مائة أخرى ، وقيل في أربعين سنة . . والله أعلم .
قال محمد بن إسحاق عن الثوري : وكان من خشب الساج ، وقيل من الصنوبر وهو نص التوراة .
قال الثوري : وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً ، وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقار ، وأن يجعل لها جؤجؤاً أزور يشق الماء .
وقال قتادة : كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين ذراعاً . وهذا الذي في التوراة على ما رأيته وقال الحسن البصري : ستمائة في عرض ثلاثمائة ، وعن ابن عباس ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة ذراع ، وقيل كان طولها ألفي ذراع ، وعرضها مائة ذراع .
قالوا كلهم ، وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعاً ، وكانت ثلاث طبقات كل واحدة عشرة أذرع ، فالسفلى للدواب والوحوش ، والوسطى للناس ، والعليا للطيور ، وكان بلبها في عرضها ، ولها غطاء من فوقها مطبق عليها .
قال الله تعالى : " قال رب انصرني بما كذبون * فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا " أي بأمرنا لك ، بمرأى منا لصنعتك لها ، ومشاهدتنا لذلك ، لنرشدك إلى الصواب في صنعتها .
" فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " .
فتقدم إليه بأمر العظيم العالي أنه إذا جاء أمره وحل بأسه ، أن يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات ، وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيرها لبقاء نسلها ، وإن يحمل معه أهله ، أي أهل بيته ، إلا من سبق عليه القول منهم ، أي إلا من كان كافراً فإنه قد نفذت فيه الدعوة التي لا ترد ، ووجب عليه حلول البأس الذي لا يرد ، وأمر أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعاينه من العذاب العظيم ، الذي قد حتمه عليهم الفعال لما يريد . كما قدمنا بيانه قبل .
والمراد بالتنور عند الجمهور وجه الأرض ، أي نبعت الأرض من سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التي هي محال النار ، وعن ابن عباس التنور عين في الهند ، وعن الشعبي ، بالكوفة وعن قتادة : بالجزيرة .
وقال علي بن أبي طالب : المراد بالتنور فلق الصبح وتنوير الفجر ، أي إشراقة وضياؤه أي عند ذلك فاحمل فيها من كل زوجين اثنين ، وهذا قول غريب .
وقوله تعالى : " حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل " هذا أمر بأنه عند حلول النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين .
وفي كتاب أهل الكتاب : أنه أمر أن يحمل كل ما يؤكل سبعة أزواج ، ومالا يؤكل زوجين : ذكر وأنثى .
وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق : " اثنين " إن جعلنا ذلك مفعولاً به ، وأما إن جعلناه توكيداً لزوجين والمفعول به محذوف فلا ينافي . . والله أعلم .
وذكر بعضهم - ويروى عن ابن عباس : أن أول ما دخل من الطيور الدرة وآخر ما دخل من الحيوانات الحمار ، ودخل إبليس متعلقاً بذنب الحمار .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدالله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني هشام ابن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لما حمل نوح السفينة من كل زوجين اثنين ، قال أصحابه ، وكيف نطمئن ؟ - أي كيف تطمئن المواشي ومعنا الأسد ؟ - فسلط الله عليه الحمى ، فكانت أول حمى نزلت في الأرض . ثم شكوا الفأرة ، فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا . فأوحى الله إلى الأسد فعطس ، فخرجت الهرة منه فتخبأت الفارة منها " .
هذا مرسل .
وقوله : " وأهلك إلا من سبق عليه القول " أي من استجيبت فيهم الدعوة النافذة ممن كفر ، فكان منهم ابنه يام الذي غرق كما سيأتي بيانه .
" ومن آمن " أي واحمل فيها من آمن بك من أمتك . قال الله تعالى : " وما آمن معه إلا قليل " هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ، ودعوتهم الأكيدة ليلاً ونهاراً بضروب المقال وفنون المتطلفات والتهديد والوعيد تارة والترغيب والوعد أخرى .
وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة .
فعن ابن عباس : كانوا ثمانين نفساً معهم نساؤهم ، وعن كعب الأحبار : كانوا اثنين وسبعين نفساً . وقيل كانوا عشرة .
وقيل إنما كانوا نوحاً وبينه الثلاثة وكنائنه الأربع بامرأة يام الذي انخزل وانعزل ، وسلك عن طريق النجاة فما عدل إذ عدل .
وهذا القول فيه مخالف لظاهر الآية ، بل هي نص في أنه قد ركب معه من غير أهله طائفة ممن آمن به ، كما قال : " ونجني ومن معي من المؤمنين " وقيل كانوا سبعة .
وأما امرأة نوح وهي أم أولاده كلهم : وهم حام ، وسام ، ويافث ، ويام ، ويسميه أهل الكتاب كنعان وهو الذي قد غرق ، و عابر فقد ماتت قبل الطوفان ، وقيل إنها غرقت مع من غرق ، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها .
وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة ، فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك ، أو أنها أنظرت ليوم القيامة ، والظاهر الأول لقوله : " لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " .
قال الله تعالى : " فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين " .
أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة ، فنجاه بها وفتح بينه وبين قومه ، وأقر عينه ممن خالفه وكذبه ، كما قال تعالى : " والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون " .
وهكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء الأمر : أن يكون على الخير والبركة ، وأن تكون عاقبتها محمودة ، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حين هاجر : " وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " .
وقد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية وقال : " اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم " أي على أسم الله ابتداء سيرها ونتهاؤه " إن ربي لغفور رحيم " أي وذو عقاب أليم ، مع كونه غفوراً رحيماً ، لا يرد بأسه عن القوم المجرمين ، كما أحل بأهل الأرض الذين كفروا به وعبدوا غيره .
قال الله تعالى : " وهي تجري بهم في موج كالجبال " وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطراً لم تعهده الأرض قبله ولا تمطره بعده ، كان كأفواه القرب ، وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها كما قال تعالى : " فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر " والدسر المسامير " تجري بأعيننا " أي بحفظنا وكلاءتنا وحراستنا ومشاهدتنا لها " جزاء لمن كان كفر " .
وقد ذكر ابن جرير وغيره : أن الطوفان كان في ثالث عشر من شهر آب في حساب القبط .
وقال تعالى : " إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية " أي السفينة " لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية " .
قال جماعة من المفسرين : ارتفع الماء على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً ، وهو الذي عند أهل الكتاب . وقيل : ثمانين ذراعاً ، وعم جميع الأرض طولها والعرض ، سهلها وحزنها ، وجبالها وقفارها ورمالها ، ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف ، ولا صغير ولا كبير .
قال الإمام مالك عن زيد بن أسلم : كان أهل ذلك الزمان قد ملئوا السهل والجبل ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لم تكن بقعة في الأرض إلا ولها مالك وحائز .
رواهما ابن أبي حاتم .
" ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين " .
وهذا الابن هو يام أخو سام وحام ويافث ، وقيل اسمه كنعان وكان كافراً عمل عملاً غير صالح ، فخالف أباه في دينه ، فهلك مع من هلك . هذا وقد نجال مع أبيه الأجانب في النسب ، لما كانوا موافقين في الدين والمذهب .
" وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين " .
أي لما فرغ من أهل الأرض ، ولم يبق بها أحد ممن عبد غير الله عز وجل ، أمر الله الأرض أن تبتلع ماءها ، وأمر السماء أن تقلع أي تمسك عن المطر " وغيض الماء " أي نقص عما كان " وقضي الأمر " أي وقع بهم الذي كان قد سبق في علمه وقدره ، من إحلاله بهم ما حل بهم .
" وقيل بعدا للقوم الظالمين " أي نودي عليهم بلسان القدرة : بعداً لهم من الرحمة والمغفرة .
كما قال تعالى : " فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين " .
وقال تعالى : " فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " .
وقال تعالى : " فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم " .
وقال تعالى : " فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين " .
وقال تعالى : " ثم أغرقنا الآخرين " .
وقال : " ولقد تركناها آية فهل من مدكر * فكيف كان عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " .
وقال تعالى : " مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا * وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " .
وقد استجاب الله تعالى - وله الحمد والمنة - دعوته ، فلم يبق منهم عين تطرف .
وقد روى الإمامان أبو جعفر بن جرير ، وأبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما من طريق يعقوب بن محمد الزهري ، عن قائد مولى عبد الله بن أبي رافع ، أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فلو رحم الله من قوم نوح أحداً لرحم أم الصبي " !
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مكث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة - يعني إلا خمسين عاماً - وغرس مائة سنة الشجر ، فعظمت وذهبت كل مذهب ، ثم قطعها ثم جعلها سفينة ، ويمرون عليه ويسخرون منه ، ويقولون : تعمل سفينة في البر ، كيف تجري ؟ قال : سوف تعلمون .
فما فرغ ونبع الماء وصار في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حباً شديداً ، فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء قبتها رفعته بيديها فغرقا ، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي " !
وهذا حديث غريب . وقد روى عن كعب الأحبار ومجاهد وغير واحد شبيه لهذه القصة وأخرى بهذا الحديث أن يكون موقوفاً متلقى عن مثل كعب الأحبار . . والله أعلم .
والمقصود أن الله لم يبق من الكفارين دياراً .
فكيف يزعم بعض المفسرين أن عوج بن عنق - ويقال ابن عناق - كان موجوداً من قبل نوح إلى زمان موسى . ويقولون : كان كافراً متمرداً جباراً عنيداً . ويقولون : كان لغير رشدة . بل ولدته أمه بنت آدم من زنى ، وأنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار ويشويه في عين الشمس ، وأنه كان يقول لنوح وهو في السفينة : ما هذه القصة التي لك ؟ ويستهزئ به . ويذكرونه أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلثاً ، إلى غير ذلك من الهذايانات التي لولا أنها مسطرة في كثير من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وأيام الناس لما تعرضنا لحكايتها ، لسقاطتها وركاكتها ، ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول .
أما المعقول : فكيف يسوغ فيه أن يهلك الله ولد نوح لكفره ، وأبوه نبي الأمة وزعيم أهل الإيمان ، ولا يهلك عوج بن عنق ، ويقال عناق ، وهو أظلم وأطغى على ماذكروا ؟
وكيف لا يرحم الله منهم أحداً ولا أم الصبي ، ويترك هذا الدعي الجبار العنيد الفاجر ، والشديد الكافر ، الشيطان المريد على ما ذكروا ؟
وأما المنقول فقد قال الله تعالى : " ثم أغرقنا الآخرين " وقال : " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " .
ثم هذا الطول الذي ذكروه مخالف لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن " .
فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى " إن هو إلا وحي يوحى " إنه لم يزل الخلق ينقص حتى الآن . أي لم يزل الناس في نقصان في طولهم من آدم إلى يوم إخباره بذلك وهلم جرا إلى يوم القيامة 0 وهذا يقتضي أنه لم يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه .
فكيف يترك هذا ويذهل عنه ويصار إلى أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب ، الذين بدلوا كتب الله المنزلة وحرفوها وأولوها ووضعوها ووضعوها على غير مواضعها ؟ فما ظنك بما هم يستقلون بنقله أو يؤتمنون عليه وهم الخونة والكذبة عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق إلا اختلاقاً من بعض زنادقتهم وفجارهم الذين كانوا أعداء الأنبياء . . والله أعلم .
ثم ذكر الله تعالى مناشدة نوح ربه في ولده ، وسؤاله له عن غرقه على وجه الإستعلام والإستكشاف .
ووجه السؤال : أنك وعدتني بنجاة أهلى معي وهو منهم وقد غرق ؟
فأجيب بأنه ليس من أهلك ، أي الذين وعدت بنجاتهم . أي إنا قلنا لك : " وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم " فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأنه سيغرق بكفره ، ولهذا ساقته الأقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان ، فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان .
ثم قال تعالى : " قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم " .
هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الأرض ، وأمكن السعي فيها والإستقرار عليها ، أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودي وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور : " بسلام منا وبركات " أي أهبط سالماً مباركاً عليك ، وعلى أمم من سيولد بعد ، أي من أولادك ، فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلاً ولا عقباً سوى نوح عليه السلام . قال تعالى : " وجعلنا ذريته هم الباقين " ، فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم ، ينسبون إلى أولاد نوح وهم : سام ، وحام ، ويافث .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم " .
ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة مرفوعاً نحوه .
وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : وقد روى عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . قال : والمراد بالروم هنا الروم الأول وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن لبطي بن يونان بن يافث ابن نوح عليه السلام .
ثم روى من حديث إسماعيل بن عياش ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أنه قال : ولد نوح ثلاثة : سام ويافث وحام ، وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة : فولد سام : العرب وفارس والروم ، وولد يافث : الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، وولد حام : القبط والسودان والبربر .
قلت : وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم بن هانىء وأحمد بن حسين ابن عباد أبو العباس قالا : حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي : حدثني أبي عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولد لنوح : سام وحام ويافث ، فولد لسام العرب وفارس الروم والخير فيهم ، وولد ليافث : يأجوج ومأموج والترك والصقالبة ولا خير فيهم . وولد لحام : القبط والبربر والسودان " .
ثم قال : لا نعلم يروى مرفوعاً إلى من هذا الوجه ، تفرد به عن محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه ، وقد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه . ورواه غيره عن يحيى بن عسيد مرسلاً ولم يسنده ، وإنما جعله من قول سعيد .
قلت : وهذا الذي ذكره أبو عمر ، هو المحفوظ عن سعيد قوله : " وهكذا روى عن وهب ابن منبه مثله " والله أعلم ، ويزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي ضعيف بمرة لا يعتمد عليه .
وقد قيل : إن نوحاً عليه السلام لم يولد له هؤلاء الثلاثة الأولاد إلا بعد الطوفان ، وإنما ولد له قبل السفينة كنعان الذي غرق ، و عابر مات قبل الطوفان .
والصحيح أن الأولاد الثلاثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم وأمهم وهو نص التوراة . وقد ذكر أن حاماً واقع امرأته في السفينة ، فدعا عليه نوح أن تشوه خلقه نطفته ، فولد له ولد أسود هو كنعان بن حام جد السودان ، وقيل بل رأى أباه نائماً وقد بدت عورته فلم يسترها وسترها أخوه ، فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته ، وأن يكون أولاده عبيداً لإخوته .
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير من طريق علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس أنه قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم : لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة فحدثنا عنها . قال : فانطلق بهم حتى أتي إلى كثيب من تراب ، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه . وقال أتدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا كعب حام بن نوح . قال : وضرب الكثيب بعصاه وقال : قم بإذن الله . فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب ، فقال له عيسى عليه السلام ، هكذا هلكت ؟ قال : لا ، ولكني مت وأنا شاب ، ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت .
قال : حدثنا عن سفينة نوح . قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات : فطبقة فيها الدواب والوحش . وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير . فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل ، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الروث ، ولما وقع الفأر يخرز السفينة بقرضه ، أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام : أن أضرب بين عيني الأسد ، فخرج من منخرة سنور وسنورة فأقبلا على الفأر . فقال له عيسى : كيف علم نوح عليه السلام أن البلاد قد غرقت ؟ قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت .
قال : ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها فعلم أن البلاد قد غرقت فطوقها الخضرة التي في عنقها ، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان ، فمن ثم تألف البيوت . قال : فقالوا : يا رسول الله . . ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا ؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ قال : فقال له : عد بإذن الله . . فعاد تراباً . وهذا أثر غريب جداً .
وروى علباء بن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً معهم أهلوهم ، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسون يوماً ، وإن الله وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوماً ، ثم وجهها إلى الجودي فاستقرت عليه ، فبعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الأرض ، فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه ، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين ، فعرف نوح أن الماء قد نضب ، فهبط إلى أسفل الجودى فابتني قرية وسماها ثمانين ، فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ، إحداها العربية ، وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم .
وقال قتادة وغيره : ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوماً ، واستقرت بهم على الجودي شهراً وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم ، وقد روى ابن جرير خبراً مرفوعاً يوافق هذا ، وأنهم صاموا يومهم ذلك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو جعفر ، حدثنا عبد الصمد بن حبيب الأزدي عن أبيه حبيب ابن عبد الله ، عن شبل ، عن أبي هريرة قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء ، فقال : " ما هذا الصوم " ؟ فقال : هذا اليوم الذي نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق ، وغرق فيه فرعون ، وهذا اليوم استوت فيه السفينة على الجودى ، فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكراً لله عز وجل : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم " وقال لأصحابه : " ومن كان منكم أصبح صائماً فليتم صومه ، ومن كان منكم قد أصاب من غذ أهله فليتم بقية صومه " .
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر ، والمستغرب ذكر نوح أيضاً . . . والله أعلم .
وأما ما يذكره كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم ، ومن حبوب كانت معهم قد استصحبوها ، وطحنوا الحبوب يومئذ ، واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم لما انهارت من الضياء بعد ما كانوا في ظلمة السفينة - فكل هذا لا يصح فيه شيء - وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بني إسرائيل لا يعتمد عليها ولا يقتدى بها . . والله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق : لما أراد الله أن يكف ذلك الطوفان أرسل ريحاً على وجه الأرض ، فسكن الماء وانسدت ينابيع الأرض ، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر ، وكان استواء الفلك على الجودي - فيما يزعم أهل التوراة - في الشهر السابع عشر ليلة مضت منه وفي أول يوم من الشهر العاشر رئيت رؤس الجبال . فلما مضى بعد ذلك أربعون يوماً فتح نوح كوة الفلك التي صنع فيها ، ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه ، فأرسل الحمامة فرجعت إليه ولم يجد لرجلها موضعاً ، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ، ثم مضت سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فلم ترجع ، فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتونة ، فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الأرض . ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع إليه ، فعلم نوح أن الأرض قد برزت ، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنين ، برز وجه الأرض ، وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك .
وهذا الذي ذكره ابن إسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب .
وقال ابن إسحاق : وفي الشهر الثاني من سنة اثنين في ست وعشرين ليلة منه " قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم " .
وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحاً قائلاً له : اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك ، وجميع الدواب التي معك ، ولينموا وليكثروا في الأرض . فخرجوا وابنتي نوح مذبحاً لله عز وجل وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال فذبحها قرباناً إلى الله عز وجل وعهد الله إليه ألا يعيد الطوفان على أهل الأرض . وجعل تذكاراً لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام ، وهو قوس قزح الذي روى عن ابن عباس أنه أمان من الغرق . قال بعضهم : فيه إشارة إلى أنه قوس بلا وتر ، أي أن هذا الغمام لا يوجد طوفان كأول مرة .
وقد أنكر طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان ، واعترف به آخرون منهم وقالوا : إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا . قالوا ولم نزل نتوارث الملك كابراً عن كابر ، من لدن كيومث - يعنون آدم - إلى زماننا هذا .
وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران وأتباع الشيطان . وهذه سفسطة منهم وكفر فظيع وجهل بليغ ، ومكابرة للمحسوسات ، وتكذيب لرب الأرض والسموات .
وقد أجمع أهل الأديان الناقلون عن رسل الرحمن ، مع ما تواتر عند الناس في سائر الأزمان ، على وقوع الطوفان ، وأنه عم جميع البلاد ، ولم يبق الله أحداً من كفرة العباد ، استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم ، وتنفيذاً لما سبق في القدر المحتوم
ثم ذكر الله تعالى مناشدة نوح ربه في ولده ، وسؤاله له عن غرقه على وجه الإستعلام والإستكشاف .
ووجه السؤال : أنك وعدتني بنجاة أهلى معي وهو منهم وقد غرق ؟
فأجيب بأنه ليس من أهلك ، أي الذين وعدت بنجاتهم . أي إنا قلنا لك : " وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم " فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأنه سيغرق بكفره ، ولهذا ساقته الأقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان ، فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان .
ثم قال تعالى : " قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم " .
هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الأرض ، وأمكن السعي فيها والإستقرار عليها ، أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودي وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور : " بسلام منا وبركات " أي أهبط سالماً مباركاً عليك ، وعلى أمم من سيولد بعد ، أي من أولادك ، فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلاً ولا عقباً سوى نوح عليه السلام . قال تعالى : " وجعلنا ذريته هم الباقين " ، فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم ، ينسبون إلى أولاد نوح وهم : سام ، وحام ، ويافث .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم " .
ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة مرفوعاً نحوه .
وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : وقد روى عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . قال : والمراد بالروم هنا الروم الأول وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن لبطي بن يونان بن يافث ابن نوح عليه السلام .
ثم روى من حديث إسماعيل بن عياش ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أنه قال : ولد نوح ثلاثة : سام ويافث وحام ، وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة : فولد سام : العرب وفارس والروم ، وولد يافث : الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، وولد حام : القبط والسودان والبربر .
قلت : وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم بن هانىء وأحمد بن حسين ابن عباد أبو العباس قالا : حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي : حدثني أبي عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولد لنوح : سام وحام ويافث ، فولد لسام العرب وفارس الروم والخير فيهم ، وولد ليافث : يأجوج ومأموج والترك والصقالبة ولا خير فيهم . وولد لحام : القبط والبربر والسودان " .
ثم قال : لا نعلم يروى مرفوعاً إلى من هذا الوجه ، تفرد به عن محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه ، وقد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه . ورواه غيره عن يحيى بن عسيد مرسلاً ولم يسنده ، وإنما جعله من قول سعيد .
قلت : وهذا الذي ذكره أبو عمر ، هو المحفوظ عن سعيد قوله : " وهكذا روى عن وهب ابن منبه مثله " والله أعلم ، ويزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي ضعيف بمرة لا يعتمد عليه .
وقد قيل : إن نوحاً عليه السلام لم يولد له هؤلاء الثلاثة الأولاد إلا بعد الطوفان ، وإنما ولد له قبل السفينة كنعان الذي غرق ، و عابر مات قبل الطوفان .
والصحيح أن الأولاد الثلاثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم وأمهم وهو نص التوراة . وقد ذكر أن حاماً واقع امرأته في السفينة ، فدعا عليه نوح أن تشوه خلقه نطفته ، فولد له ولد أسود هو كنعان بن حام جد السودان ، وقيل بل رأى أباه نائماً وقد بدت عورته فلم يسترها وسترها أخوه ، فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته ، وأن يكون أولاده عبيداً لإخوته .
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير من طريق علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس أنه قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم : لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة فحدثنا عنها . قال : فانطلق بهم حتى أتي إلى كثيب من تراب ، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه . وقال أتدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا كعب حام بن نوح . قال : وضرب الكثيب بعصاه وقال : قم بإذن الله . فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب ، فقال له عيسى عليه السلام ، هكذا هلكت ؟ قال : لا ، ولكني مت وأنا شاب ، ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت .
قال : حدثنا عن سفينة نوح . قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات : فطبقة فيها الدواب والوحش . وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير . فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل ، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الروث ، ولما وقع الفأر يخرز السفينة بقرضه ، أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام : أن أضرب بين عيني الأسد ، فخرج من منخرة سنور وسنورة فأقبلا على الفأر . فقال له عيسى : كيف علم نوح عليه السلام أن البلاد قد غرقت ؟ قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت .
قال : ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها فعلم أن البلاد قد غرقت فطوقها الخضرة التي في عنقها ، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان ، فمن ثم تألف البيوت . قال : فقالوا : يا رسول الله . . ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا ؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ قال : فقال له : عد بإذن الله . . فعاد تراباً . وهذا أثر غريب جداً .
وروى علباء بن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً معهم أهلوهم ، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسون يوماً ، وإن الله وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوماً ، ثم وجهها إلى الجودي فاستقرت عليه ، فبعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الأرض ، فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه ، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين ، فعرف نوح أن الماء قد نضب ، فهبط إلى أسفل الجودى فابتني قرية وسماها ثمانين ، فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ، إحداها العربية ، وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم .
وقال قتادة وغيره : ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوماً ، واستقرت بهم على الجودي شهراً وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم ، وقد روى ابن جرير خبراً مرفوعاً يوافق هذا ، وأنهم صاموا يومهم ذلك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو جعفر ، حدثنا عبد الصمد بن حبيب الأزدي عن أبيه حبيب ابن عبد الله ، عن شبل ، عن أبي هريرة قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء ، فقال : " ما هذا الصوم " ؟ فقال : هذا اليوم الذي نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق ، وغرق فيه فرعون ، وهذا اليوم استوت فيه السفينة على الجودى ، فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكراً لله عز وجل : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم " وقال لأصحابه : " ومن كان منكم أصبح صائماً فليتم صومه ، ومن كان منكم قد أصاب من غذ أهله فليتم بقية صومه " .
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر ، والمستغرب ذكر نوح أيضاً . . . والله أعلم .
وأما ما يذكره كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم ، ومن حبوب كانت معهم قد استصحبوها ، وطحنوا الحبوب يومئذ ، واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم لما انهارت من الضياء بعد ما كانوا في ظلمة السفينة - فكل هذا لا يصح فيه شيء - وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بني إسرائيل لا يعتمد عليها ولا يقتدى بها . . والله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق : لما أراد الله أن يكف ذلك الطوفان أرسل ريحاً على وجه الأرض ، فسكن الماء وانسدت ينابيع الأرض ، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر ، وكان استواء الفلك على الجودي - فيما يزعم أهل التوراة - في الشهر السابع عشر ليلة مضت منه وفي أول يوم من الشهر العاشر رئيت رؤس الجبال . فلما مضى بعد ذلك أربعون يوماً فتح نوح كوة الفلك التي صنع فيها ، ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه ، فأرسل الحمامة فرجعت إليه ولم يجد لرجلها موضعاً ، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ، ثم مضت سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فلم ترجع ، فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتونة ، فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الأرض . ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع إليه ، فعلم نوح أن الأرض قد برزت ، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنين ، برز وجه الأرض ، وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك .
وهذا الذي ذكره ابن إسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب .
وقال ابن إسحاق : وفي الشهر الثاني من سنة اثنين في ست وعشرين ليلة منه " قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم " .
وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحاً قائلاً له : اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك ، وجميع الدواب التي معك ، ولينموا وليكثروا في الأرض . فخرجوا وابنتي نوح مذبحاً لله عز وجل وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال فذبحها قرباناً إلى الله عز وجل وعهد الله إليه ألا يعيد الطوفان على أهل الأرض . وجعل تذكاراً لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام ، وهو قوس قزح الذي روى عن ابن عباس أنه أمان من الغرق . قال بعضهم : فيه إشارة إلى أنه قوس بلا وتر ، أي أن هذا الغمام لا يوجد طوفان كأول مرة .
وقد أنكر طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان ، واعترف به آخرون منهم وقالوا : إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا . قالوا ولم نزل نتوارث الملك كابراً عن كابر ، من لدن كيومث - يعنون آدم - إلى زماننا هذا .
وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران وأتباع الشيطان . وهذه سفسطة منهم وكفر فظيع وجهل بليغ ، ومكابرة للمحسوسات ، وتكذيب لرب الأرض والسموات .
وقد أجمع أهل الأديان الناقلون عن رسل الرحمن ، مع ما تواتر عند الناس في سائر الأزمان ، على وقوع الطوفان ، وأنه عم جميع البلاد ، ولم يبق الله أحداً من كفرة العباد ، استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم ، وتنفيذاً لما سبق في القدر المحتوم .