لقد اختار الله سبحانه وتعالى محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجتباه ورباه على عينه وأراد أن يكون محمداً يتيما فقيراً ، ليصرف عنه بهما الترف الذى يحطم العزائم ويخذل الرجال . وتدليل الطفولة التى تزعزع الشخصية . وشوائب الثراء الذى يذهب حمية النفس وقوة العزيمة .
وبذلك شب محمد - - يحمل صفات ومقومات الشخصية القوية مضافا إليها ما استشفه من خبرات وممارسة الحياة الخشنة التى واجهها وتجاربه التى مر بها .
" دعائم الشخصيه "
أولا : " الإعداد الحسى "
أ - السفر والتجارة :
كان لكثرة أسفاره - صلى الله عليه وسلم - مع عمه أبى طالب للتجارة فى الشام ثم سفره بمفرده للتجارة فى أموال السيدة خديجة رضى الله عنها . أثره الكبيرفى معرفة الناس وأخلاقهم وطبائعهم وكيفية التعامل معهم ، كما عرف بالاستنتاج والفطنة وسرعة البديهة فى معرفة أقدار الناس . وكيف يتصرف حيال ما يعترضه من مشاكل فى أسفارة التجارية .
وإن كانت التجارة علمته كيفية التعامل والمعاملة ، فإن حياة الرعى والصبر عليها علمته كيف يسوس القطعان ويجعلها تحت إمرته بلين الجانب وحسن الأداء .
ب- الصدق والأمانة :
الصدق والأمانة هما دعامة الشخصية . بهما يكون الإنسان محبوبا مهيبا ، وهما أبرز ما فى شخصية محمد - - وهذا ما وجدته السيدة خديجة رضى الله عنها عندما طلبت منه أن يتاجر لها فى مالها فكان أمينا على مالها صادقا فى معاملتها فربحت تجارتها .
وها هو الرسول - - يسافر إلى الشام فى تجارة بمال السيدة خديجة ومعه غلامها ميسرة . وقد شاهد الكثير من الآيات أثناء الرحلة ، فقد رأى الغمامه تظله وعند نزول رسول الله ليستريح فى ظل شجرة قريبا من صومعة راهب فقال الراهب (1) لميسرة : ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبى ، ولما عاد أخبر ميسرة السيدة خديجة بما رأى وسمع فبعثت إلى النبى ـ ـ مع خادمتها برغبتها فى الزواج به وكان سنه قد بلغ الخامسة والعشرين وهى أرملة فى الأربعين .
وقد قالت له : "يا ابن عم ! إنى قد رغبت فيك لقرابتك وسلطتك فى قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك (2) " .
وقد قبل – عليه الصلاة والسلام – بعد موافقة عمه . وقد سبق أن تقدم لها العديد من علية القوم يفوقون الرسول مالا وسلطانا وجاها . ولكنها رفضت كل هؤلاء وطلبت هى بنفسها الزواج منه .
وقد دفع عنه صداقها عمه أبو طالب (3) وخطب خطبة شهدها حمزة بن عبد المطلب عم الرسول أبان فيها فضل الرسول حيث قال : "الحمد لله الذى جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وجعل لنا بيتا محجوبا وبلدا حراما وجعلنا الحكام على الناس ثم إن محمداً بن عبد الله ابن أخى من لايوزن به فتى من قريش إلا رجح عليه برا . فإنما المال ظل زائل ، وعارية مسترجعة ، وله فى خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك . وما أحببتم من الصداق فعلى … " .
وكان المزّوج لها عمها عمرو بن أسد ، والمزّوج له أبو طالب . وكان الصداق اثنتى عشرة أوقية ونصف أوقية .
جـ- الذكاء :
ويظهر لنا ذكاء الرسول – عليه الصلاة والسلام – عندما حكمته القبائل على نفسها فى أمر الحجر الأسود حينما اشتد الخلاف بينهم . فى أمر وضع الحجر .
وقد قالوا : نحتكم لأول قادم علينا .. فكان محمد بن عبد الله .
فقالوا : هذا هو الصادق الأمين . قد رضينا به حكما. فكان حكمه . أن يأخذ بيده الشريفة الحجر ويضعه فى ردائه ثم يأخذ كل شريف منهم من كل قبيلة بطرف الرداء ثم يأخذ المصطفى الأمين الحجر . ويضعه فى مكانه . وبذلك صرف عنهم خصومتهم .
د- حرب الفجار وحلف الفضول :
اشترك عليه الصلاة والسلام فى حرب الفجار التى امتدت ثلاث سنوات، بين قريش ، وقيس واستحلت فيها حرمات الكعبه .
فكان يجمع السهام من مساقط العدو، ويعطيها إلى أعمامه ثم اشترك بعد ذلك فى إلقائها على الأعداء .
أما حلف الفضول : فيقول فيه – عليه الصلاة والسلام
ما أحب لى بحلف حضرته فى دار بن جدعان من حمر النعم ولو دعيت به لأجبت ) وهذا الحلف الذى تعاهدت فيه قريش بنصرة المظلوم حتى يؤدى حقه ، وبذلك اكتسب الخبرة ، والتجربة وبرزت فيه الرجوله الحقة ، والشجاعة والمشاركة الوجدانية لأهله وعشيرته وحبه للتعبد والتأمل والتطلع إلى الله وحده ، وأخذت حياة الرسول الأمين تتغير شيئا فشيئا وأخذ يتجه بقلبه وحسه وحبه للذات العلياحتى امتلأ قلبه بنور الإيمان وصنعه الله على عينه وأعده لرسالته .
ثانيا : الإعداد الروحى :
الرسول فى غار حراء :
لقد أحب الرسول – عليه الصلاة والسلام – العزلة فذهب إلى غار حراء يتعبد فيه ، واعتكف عن الناس . زاهدا فى الدنيا . شغوفا بحب ربه ، وهو فى الأربعين من عمره فى سن الكمال والتمام والنضج إذ زاد شوقا لله ، بينما كان – عليه الصلاة والسلام – فى الغار يوم الإثنين لسبعة عشر ليلة خلت من شهر رمضان . نزل عليه جبريل الأمين وقال له : اقرأ قال له : ما أنا بقارئ . فضمه جبريل إلى صدره وقال له : اقرأ قال له : ما أنا بقارئ . فضمه جبريل ثالثة فقال له: اقرأباسم ربك الذى خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذى علم بالقلم ،علم الإنسان ما لم يعلم (1).
وجد محمد – عليه الصلاة والسلام – ضالته التى كان ينشدها . ومن فرط ما أصابه من الجهد الذى لقيه مع جبريل ذهب إلى السيدة خديجة بمكة وهو يقول لها : دثرينى دثرينى ، ولما أخبرها أخذته إلى ورقة بن نوفل ولما أخبره - عليه الصلاة والسلام - قال له : " والذى نفسى بيده ، إنك لنبى هذه الأمة ، ولقد جاءك الناموس الذى جاء موسى ، وأخبره بأن قومه سيعادونه ويخرجونه . ووعده بالنصر إن أدركه ذلك اليوم الذى يخرجه فيه قومه .. " .
ثم أرقى ورقة رأس النبى - عليه الصلاة والسلام - وقبل نافوخه ، وعاد إلى بيته الرسول الأمين يواصل العبادة والتأمل .
توقف الوحى مدة ثلاث سنوات – (وقيل أقل) ليذهب عنه ما وجد من الرعب ، وليحصل له الشوق واللهفة والوجد .
فكان يذهب عليه الصلاة والسلام إلى غار حراء رجاء أن يرى مثل ما رأى . ولما طالت عليه المدة ظهر عليه الحزن الشديد فكان يغدوا إلى رءوس الجبال كى يلقى ما بنفسه من حزن وأسف فيسمع جبريل عليه السلام يقول له : يا محمد ، إنك رسول الله حقا .. فيسكن جأشه وكان يسمع صوت اسرافيل يلقى عليه ما يأمر به الله من علمه .
ولقد عصمه الله تعالى قبل النبوة – وبعدها . وبشرت بنبوته التوراه والإنجيل كما تنبأ الرهبان والكهان . بقرب بعثته. وسمى بعض العرب أولادهم باسم محمد عسى أن يكون هو النبى المنتظر . وقد قال الله تعالى : على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام : وإذ قال عيسى ابن مريم يا بنى اسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشراً برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد