فصل في دخول بني إسرائيل التيه وما جرى لهم فيه من الأمور العجيبة
قد ذكرنا نكول بني إسرائيل عن قتال الجبارين ، وأن الله تعالى عاقبهم بالتيه ، وحكم بأنهم لا يخرجون منه إلى أربعين سنة .
ولم أر في كتاب أهل الكتاب قصة نكولهم عن قتال الجبارين ، ولكن فيها : أن يوشع جهزه موسى لقتال طائفة من الكفار ، وأن موسى وهارون وخور جلسوا على رأس أكمة ، ورفع موسى عصاه ، فكلما رفعها انتصر يوشع عليهم ، وكلما مالت يده بها من تعب أو نحوه غلبهم أولئك وجعل هارون وخور يدعمان يديه عن يمينه وشماله ذلك اليوم إلى غروب الشمس ، فانتصر حزب يوشع عليه السلام . وعندهم أن ( يثرون ) كاهن مدين وختن موسى عليه السلام بلغه ما كان من أمر موسى وكيف أظفره الله بعدوه فرعون ، فقدم على موسى مسلماً ، ومعه ابنته صفورا زوجة موسى ، وابناها منه ، جرشون و عازر فتلقاه موسى وأكرمه ، واجتمع به شيوخ بني إسرائيل وعظموه وأجلوه .
وذكروا أنه رأى كثرة اجتماع بني إسرائيل على موسى في الخصومات التي تقع بينهم ، فأشار على موسى أن يجعل على الناس رجالاً أمناء أتقياء أعفاء ، يبغضون الرشاء والخيانة ، فيجعلهم على الناس رءوس ألوف ، ورءوس مئين ، ورءوس خمسين ، ورءوس عشرة ، فيقضوا بين الناس ، فإذا أشكل عليهم أمر جاءوك ففصلت بينهم ما أشكل عليهم ، ففعل ذلك موسى عليه السلام .
قالوا : ودخل بنو إسرائيل البرية عند سيناء ، في الشهر الثالث من خروجهم من مصر ، وكان خروجهم في أول السنة التي شرعت لهم ، وهي أول فصل الربيع ، فكأنهم دخلوا التيه في أول فصل الصيف . . والله أعلم .
قالوا : ونزل بنو إسرائيل حول طور سيناء ، وصعد موسى الجبل فكلمه ربه ، وأمره أن يذكر بني إسرائيل ما أنعم به عليهم ، من إنجائه إياهم من فرعون وقومه ، وكيف حملهم على مثل جناحي نسر من يده وقبضته ، وأمره أن يأمر بني إسرائيل بأن يتطهروا ويغتسلوا ويغسلوا ثيابهم وليستعدوا إلى اليوم الثالث ، فاذا كان في اليوم الثالث فليجتمعوا حول الجبل ، ولا يقتربن أحد منهم إليه ، فن دنا منه قتل ، حتى ولا شيء من البهائم ، ماداموا يسمعون صوت القرن فإذا سكن القرن فقد حل لكم أن ترتقوه . فسمع بنو إسرائيل ذلك وأطاعوا واغتسلوا وتنظفوا وتطيبوا .
فلما كان اليوم الثالث ركب الجبل غمامة عظيمة ، وفيها أصوات وبروق وصوت الصور شديد جداً . ففزع بنو إسرائيل من ذلك فزعاً شديداً ، وخرجوا فقاموا في سفح الجبل ، وغشي الجبل دخان عظيم في وسطه عمود نور زلزل الجبل كله زلزلة شديدة ، واستمر صوت الصور ، وهو البوق واشتد ، وموسى عليه السلام فوق الجبل ، والله يكلمه ويناجيه ، وأمر الرب عز وجل موسى أن ينزل فيأمر بين إسرائيل أن يتقربوا من الجبل ليسمعوا وصية الله ، وأمر الأحبار ، وهم علماؤهم أن يدنوا فيصعدوا الجبل ، ليتقدموا بالقرب .
وهذا نص في كتابهم على وقوع النسخ لا محالة .
فقال موسى : يارب . . إنهم لايستطيعون أن يصعدوا ، وقد نهيتهم عن ذلك ، فأمره الله تعالى أن يذهب فيأتي معه بأخيه هارون ، ولكن الكهنة وهم العلماء ، والشعب وهم بقية بني إسرائيل ، غير بعيد ففعل موسى .
وكلمه ربه عز وجل ، فأمره حينئذ بالعشر الكلمات .
وعندهم أن بني إسرائيل سمعوا كلام الله ، ولكن لم يفهموا حتى فهمهم موسى ، وجعلوا يقولون لموسى : بلغنا أنت عن الرب عز وجل ، فإنا نخاف أن نموت .
فبلغهم عنه فقال هذه العشر الكلمات . وهي : الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، والنهي عن الحلف بالله كاذباً ، والأمر بالمحافظة على السبت ومعناه تفرغ يوم من الأسبوع للعبادة ، وهذا حاصل بيوم الجمعة الذي نسخ الله به السبت . أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض . الذي يعطيك الله ربك . لا تقتل . لا تزن . لا تسرق . لا نشهد على صاحبك شهادة زور . لا تعمد عينك إلي بيت صاحبك ، ولا تشته امرأة صاحبك ، ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ، ولا حماره ، ولا شيئاً من الذي لصاحبك . . ومعناه النهي عن الحسد .
وقد قال كثير من علماء السلف وغيرهم : مضمون هذه العشر الكلمات في آيتين من القرآن ، وهما قوله تعالى في سورة الأنعام : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " .
وذكروا بعد العشر الكلمات وصايا كثيرة وأحكاماً متفرقة عزيزة ، كانت فزالت ، وعمل بها حيناً من الدهر ثم طرأ عليها عصيان من المكلفين بها ، ثم عمدوا إليها فبدلوها وحرفوها ، ثم بعد ذلك كل سلبوها فصارت منسوخة مبدلة ، بعد ما كانت مشروعة مكملة .
فلله الأمر من قبل ومن بعد ، وهو الذي يحكم ما يشاء ، ويفعل ما يريد ألا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين .
وقد قال الله تعالى : " يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى * كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى * وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " .
يذكر تعالى منته وإحسانه إلا بني إسرائيل بما أنجاهم من أعدائهم وخلصهم من الضيق والحرج وأنه وعدهم صحبة نبيهم إلى جانب الطور الأيمن أي منهم ، لينزل عليه أحكاماً عظمية فيما مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وأنه تعالى أنزل عليهم في حال شدتهم وضرورتهم في سفرهم في الأرض التي ليس ليها زرع ولا ضرع ، مناً من السماء ، يصبحون فيجدونه خلال بيوتهم ، فيأخذون منه قدر حاجتهم في ذلك اليوم إلى مثله من الغد ، ومن ادخر منه لأكثر من ذلك فسد ، ومن أخذ منه قليلاً كفاه ، أو كثيراً لم يفضل عنه فيصنعون منه مثل الخبز ، وهو في غاية البياض والحلاوة ، فإذا كان من آخر النهار غشيهم طير السلوى ، فيقتنصون منها بلا كلفة ما يحتاجون إليه حسب كفايتهم لعشائهم .
وإذا كان فصل الصيف ظلل الله عليهم الغمام ، وهو السحاب الذي يستر عنهم حر الشمس وضوءها الباهر ، كما قال تعالى في سورة البقرة : " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون * وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون " .
إلى أن قال : " وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون * وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون * وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون * وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم * وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون * وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " .
إلى أن قال : " وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين * وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " .
فذكر تعالى إنعامه عليهم ، وإحسانه إليهم ، بما يسر لهم من المن والسلوى ، طعامين شهيين بلا كلفة ولا سعي لهم فيه ، بل ينزل الله المن باكراً ، ويرسل عليهم طير السلوى عشياً ، وأنبع الماء لهم ، بضرب موسى عليه السلام حجراً كانوا يحملونه معهم بالعصا ، فتفجر منه اثنتا عشرة عيناً ، لكل سبط عين منه تنبجس ، ثم تنفجر ماء زلالاً فيستقون فيشربون ويسقون دوابهم ، ويدخرون كفايتهم ، وظلل عليهم الغمام من الحر .
وهذه نعم من الله عظيمة ، وعطيات جسيمة ، فما رعوها حق رعايتها ، ولا قاموا بشكرها وحق عبادتها ، ثم ضجر كثير منهم منها وتبرموا بها ، وسألوا أن يستبدلوا منها ببدلها ، مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها .
فقرعهم الكليم ووبخهم وأنبهم على هذه المقالة وعنفهم قائلاً : " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم " أي هذا الذي تطلبونه وتريدونه بدل هذه النعم التي أنتم فيها حاصل لأهل الأمصار الصغار والكبار موجود بها ، وإذا هبطتم بها ما تشتهون وما ترومون بما ذكرتم من المآكل الدنية والأغذية الردية ، ولكني لست أجيبكم إلى سؤال ذلك هاهنا ، ولا أبلغم ما تعنتم به من المنى .
وكل هذه الصفات المذكورة عنهم الصادرة منهم ، تدل على أنهم لم ينتهوا عما نهوا عنه ، كما قال تعالى : " ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى " أي فقد هلك وحق له والله الهلاك والدمار ، وقد حل عليه غضب الملك الجبار .
ولكنه تعالى مزج هذا الوعيد الشديد ، بالرجاء لمن أناب وتاب ولم يستمر على متابعة الشيطان المريد ، فقال : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " .
سؤال الرؤية
قال تعالى : " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين * ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين * قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين * وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين * سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين * والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " .
قال جماعة من السلف منهم ابن عباس ومسروق ومجاهد : الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله ، وأتمت أربعين ليلة بعشر من ذي الحجة .
فعلى هذا يكون كلام الله له يوم عيد النحر ، وفي مثله أكمل الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه ، وأقام حجته وبراهينه .
والمقصود أن موسى عليه السلام لما استكمل الميقات ، وكان فيه صائماً يقال إنه لم يستطعم الطعام ، فلما كمل الشهر أخذ لحاء شجرة فمضغه ليطيب ريح فمه ، فأمره الله أن يمسك عشراً أخرى ، فصارت أربعين ليلة . ولهذا ثبت في الحديث : أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك .
فلما عزم على الذهاب استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هارون ، المحبب المبجل الجليل . وهو ابن أمه وأبيه ، ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه ، فوصاه ، وأمره وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة .
قال الله تعالى : " ولما جاء موسى لميقاتنا " أي في الوقت الذي أمر بالمجىء فيه ، " وكلمه ربه " أي كلمه الله من وراء حجاب ، إلا أنه أسمعه الخطاب ، فناداه وناجاه ، وقربه وأدناه ، وهذا مقام رفيع ومعقل منيع ، ومنصب شريف ومنزل منيف ، فصلوات الله عليه تترى ، وسلامه عليه في الدنيا والأخرى .
ولما أعطى هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية ، وسمع الخطاب ، سأل رفع الحجاب ، فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار القوي البرهان : " رب أرني أنظر إليك قال لن تراني " ثم بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى ، لأن الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتاً وأشد ثباتاً من الإنسان ، لا يثبت عند التجلي من الرحمن . ولهذا قال : " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " .
وفي الكتب المتقدمة : أن الله تعالى قال له : يا موسى . . إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده .
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حجابه النور - وفي رواية : النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إلى بصره من خلقه " .
وقال ابن عباس في قوله تعالى : " لا تدركه الأبصار " ذاك نوره الذي هو نوره ، إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء .
ولهذا قال تعالى : " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين " .
قال مجاهد : " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " فإنه أكبر منك وأشد خلقاً ، " فلما تجلى ربه للجبل " فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل فدك على أوله ، ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقاً .
وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الإمام أحمد و الترمذي ، وصححه ابن جرير و الحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت ، وزاد ابن جرير وليث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا " قال هكذا بأصبعه ، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل ، لفظ ابن جرير .
وقال السدي عن عكرمة ، عن ابن عباس : ما تجلي - يعنى من العظمة - منه إلا قدر الخنصر فجعل الجبل دكاً ، قال : تراباً ، " وخر موسى صعقا " أي مغشياً عليه . وقال قتادة : ميتاً . والصحيح الأول لقوله : " فلما أفاق " فإن الإفاقة إنما تكون عن غشي " قال سبحانك " تنزيه وتعظيم وإجلال أن يراه بعظمته أحد ، " تبت إليك " أي فلست أسأل بعد هذا الرؤية ، " وأنا أول المؤمنين " أنه لا يراك أحد حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده .
وقد ثبت في الصحيحين من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروني من بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزى بصعقة الطور " ؟
لفظ البخاري . وفي أوله قصة اليهودي الذي لطم وجهه الأنصاري حين قال : لا والذي اصطفى موسى على البشر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروني من بين الأنبياء " .
وفي الصحيحين من طريق الزهري عن أبي سلمة وعبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وفيه : " لا تخيروني على موسى " وذكر تمامه .
وهذا من باب الهضم والتواضع ، أو النهي عن التفضيل بين الأنبياء على وجه الغضب والعصبية ، أو : ليس هذا إليكم بل الله هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات ، وليس ينال هذا بمجرد الرأي ، بل بالتوقيف .
ومن قال إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل ، ثم نسخ باطلاعه على أفضليته عليهم كلهم ، ففي قوله نظر ، لأن هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة ، وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخراً ، فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا . . والله أعلم .
ولا شك أنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، أفضل البشر بل الخليقة ، قال الله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " وما كملوا إلا بشرف نبيهم .
وثبت بالتواتر عنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، أنه قال : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر " . ثم ذكر اختصاصه بالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، الذي تحيد عنه الأنبياء والمرسلون ، حتى أولوا العزم الأكملون : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش - أي آخذاً بها - فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور " دليل على أن هذا الصعق الذي يحصل للخلائق في عرصات القيامة ، حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده : فيصعقون من شدة الهيبة والعظمة والجلال ، فيكون أولهم إفاقة محمد خاتم الأنبياء ، ومصطفى رب الأرض والسماء على سائر الأنبياء ، فيجد موسى باطشاً بقائمة العرش . قال الصادق المصدوق : " فلا أدرى أصعق فأفاق قبلي " ؟ أي وكانت صعقته خفيفة ، لأنه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق ، " أو جوزي بصعقة الطور " ؟ يعنى فلم يصعق بالكلية .
وهذا فيه شرف كبير لموسى عليه السلام من هذه الحيثية ، ولا يلزم تفضيله بها مطلقاً من كل وجه . ولهذا نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على شرفه وفضيلته بهذه الصفة ، لأن المسلم لما ضرب وجه اليهودي حين قال : لا والذي اصطفى موسى على البشر ، قد يحصل في نفوس المشاهدين لذلك هضم بجناب موسى عليه الصلاة والسلام ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته وشرفه .
وقوله تعالى : " قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " أي في ذلك الزمان ، لا ما قبله ، لأن إبراهيم الخليل أفضل منه ، كما تقدم بيان ذلك في قصة إبراهيم ، ولا ما بعده ، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل منهما ، كما ظهر شرفه ليلة الإسراء على جميع المرسلين والأنبياء ، وكما ثبت أنه قال : " سأقوم مقاماً يرغب إلي الخلائق حتى إبراهيم " .
وقوله تعالى : " فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين " أي فخذ ما أعطيتك من الرسالة والكلام ، ولا تسأل زيادة عليه ، وكن من الشاكرين على ذلك .
وقال الله تعالى : " وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء " وكانت الألواح من جوهر نفيس ، ففي الصحيح : أن الله كتب له التوراة بيده ، وفيها مواعظ عن الآثام ، وتفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام .
" فخذها بقوة " أي بعزم ونية صادقة قوية " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " أن يضعوها على أحسن وجوهها وأجمل محاملها " سأريكم دار الفاسقين " أي سترون عاقبة الخارجين عن طاعتي ، المخلفين لأمري ، المكذبين لرسلي .
" سأصرف عن آياتي " أي عن فهمها وتدبرها ، وتعقل معناها الذي أريد منها ، ودل عليه مقتضاها " الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها " أي ولو شاهدوا مهما شاهدوا من الخوارق والمعجزات ، لا ينقادون لإتباعها " وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا " أي لا يسلكوه ولا يتبعوه " وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا " أي صرفناهم عن ذلك لتكذيبهم بآياتنا ، وتغافلهم عنها ، وإعراضهم عن التصديق بها والتفكير في معناها ، وترك العمل بمقتضاها . " والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون